منوعات
صور: قصة رجل ينقذ النسور
من خلال مجموعة من عمليات الإنقاذ التي تعيد إلى الأذهان لقطات من فيلم "مهمة مستحيلة"، يخوض بيتر شارب، وهو باحث بيئي، الصعاب من أجل إنقاذ نوع من النسور بمتنزة "تشانل أيلندز" بولاية كاليفورنيا.
وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي -في تقرير لها على موقعها الإكرتوني- بأن بيتر شارب قاد فريقا من العاملين الميدانيين عبر الممر الضيق المؤدي إلى قمة مونتانون، وهو طريق جبلي وعر في جنوب شرقي جزيرة سانتا كروز.
ثم اجتاز أعضاء الفريق منحدرات من الحصى غير المتماسك، وهم يحاولون تفادي الصبار الشائك الذي يغطي أرض هذا الجبل.
وفوق صخور الجرانيت ذات النتوءات الحادة، وحقول الحشائش الخضراء ذات السنابل الناعمة التي تتمايل يمينًا ويسارًا، مرّت السحب الرقيقة. ولم يعكر صفو شارب وفريقه أي شخص آخر على مرمى البصر.
توجه شارب وفريقه صوب عُش بعيد لنسر من نوع العقاب الأصلع، حيث سيضمّد جناجي فرخ عمره ثمانية أسابيع.
ويدير شارب، بوصفه باحثا بيئيا في معهد دراسات الحياة البرية، برنامج لمراقبة العقبان الصلعاء في متنزة "تشانل أيلندز" الوطني، وتتضمن أعماله الميدانية زيارة الأعشاش التي يصعب الوصول إليها.
ويقول شارب: "في بعض الأحيان، قد نجد أعشاشًا على جرف صخري ارتفاعه 500 قدم".
يضم المتنزة الوطني، الذي يبعد 20 ميلًا عن الساحل الجنوبي لولاية كاليفورنيا، مجموعة من خمس جزر، أكبرها جزيرة سانتا كروز، التي تبلغ مساحتها 96 ألف ميل مربع.
وتتميز كل جزيرة منها بتضاريسها المتنوعة، من شواطئ وغابات، وأخاديد ذات تنوع حيوي غني بأنواع النباتات وفصائل الحيوانات التي تتخذ تلك الجزر موطنًا لها، ولهذا يطلق عليها "جزر غلاباغوس الغرب".
وساهمت قلة أعداد الزائرين لمتنزة "تشانل أيلندز" الوطني، الذي يعد أحد أقل المتنزهات الوطنية ارتيادًا في كاليفورنيا، في ازدهار الحياة البرية فيه.
وقال شارب -وفقا لبي بي سي: "في حين قد تصطدم الكثير من الطيور الصغيرة بالسيارات خارج الجزر، أو تُصعق بخطوط التيار الكهربائي، فإنها تحظى هنا على الجزر بحماية معقولة من كل التهديدات التي صنعها البشر".
وقد انتاب شارب القلق في أول رحلة استكشافية قام بها في موسم تحجيل الطيور، أي وضع حلقات معدنية حول ساقها لتعريفها واقتفاء أثرها. وقال شارب باسمًا: "لا أريد أن أتسلق شجرة قد تصل سرعة الرياح فوقها إلى 30 ميلًا في الساعة".
ولم يكن شغله الشاغل آنذاك سلامته الشخصية، بل كان يشغله أيضًا سلامة الفرخ في العش الذي لا يمكنه الطيران. فإذا فرد الفرخ جناحيه قد يتعثر بالغصن وينتهي به المطاف بمنقار مكسور، أو الأسوأ من ذلك جناح مكسور.
وقال شارب: "يجب ألا تخيف الأفراخ، وفي الوقت نفسه ألا تسبب القلق للطيور البالغة عند الاقتراب من أعشاشها".
يقضي نحو 50 في المئة من الطيور التي يضع شارب الطوق حول ساقها نحبها قبل أن تبلغ عامها الأول، ولكن، من خلال ذلك الطوق، يستطيع شارب أن يتتبع حركة الطيور في أعوامها القليلة الأولى ليعرف أي منها سيبقى على قيد الحياة.
وبعدما تخلص شارب من حالة القلق التي استبدت به في اليوم الأول، أصبح مستعدًا للعمل. وقد انضم شارب إلى المعهد المعني بدراسات الحياة البرية سنة 1997، حين تراجعت أعداد النسور إلى أدنى مستوياتها، إذ لم يتبق وقتذاك إلا ثلاثة أزواج من النسور.
يُذكر أن العقاب الأصلع كان يعيش في الجزر حتى خمسينيات القرن العشرين، ولكن عندما بدأت شركات الصناعات الكيميائية تلقي مخلفاتها من مبيدات حشرات التي تتكون من مادة "الدي دي تي" السامة (التي حظرت وكالة حماية البيئة الأمريكية استخدامها سنة 1972) في المحيط عبر شبكة الصرف الصحي بلوس أنجليس، كادت الطيور أن تختفي من الجزيرة.
وتسببت رقة قشر بيض تلك النسور، الذي كان يُعزى إلى تلوث سلسلة غذاء الطيور، في تشقق البيض قبل أن يفقس. ولعدم وجود أفراخ كافية لتحل محل الطيور البالغة، تضاءلت أعداد النسور.
ومن ثم، قرر شارب أن يتصدى لمخاوفه بنفسه، ويتذكر قائلًا: "كان لزامًا علينا أن نتحمل هذه الظروف القاسية لكي ننقذ النسور. لم أكن أعلم أي شيء عن هذا كله عندما تقدمت للحصول على هذه الوظيفة".
وشيئًا فشيئًا، تطور التعاقد الذي كان يظن أنه مؤقتًا لمدة تسعة أشهر فقط إلى وظيفة دامت لعقدين من الزمن.
وقال شارب: "يمكنني القول إن الحظ قادني إلى هذه الوظيفة".
كان عمل شارب الميداني، قبل أن يتسلم مهامه في الجزر، يتضمن زيادة أعداد طائر الطهيوج متوسط الحجم الذي يسمى الطهيوج المطوق، التي شهدت أعداده تراجعًا ملحوظا، في جنوبي ولاية إلينوي، ودراسة سلوكيات السناجب الأرضية وبيئاتها الطبيعية.
ولكن العمل مع النسور كان يتطلب مجموعة من المهارات الجديدة، حتى لو كان هذا يعني أن يتصدى لمخاوفه من المرتفعات.
وفي سلسلة من عمليات الإنقاذ التي تشبه العمليات التي قام بها بطل فيلم "مهمة مستحيلة"، قفز شارب من طائرة هليكوبتر لمسافة 100 قدم وهو معلقًا بحبل، بينما تحلق الطائرة صوب الأعشاش التي يتعذر الوصول إليها.
يتذكر شارب قائلًا: "في المرات العشر الأولى كان كل ما يشغلني أن أنجو من الموت. ثم تعلمت أن استمتع بالمنظر، فإن فرصة رؤية الجزيرة من هذه الزاوية لا تتاح للكثيرين".
وتمكن شارب، من خلال التحليق فوق جروف صخرية يصل ارتفاعها إلى ألف و500 قدم، من استعادة البيض ذي القشور الهشة، والذي نُقل فيما بعد إلى حديقة حيوان سان فرانسيسكو ليستكمل هناك فترة التفريخ.
ومنذ انتهاء عمليات الإنقاذ سنة 2006، خرج 129 فرخًا من البيض بطريقة طبيعية على الجزر، واليوم يوجد على الجزيرة 20 زوجًا من النسور، ويراقب شارب هذا الموسم نمو 13 فرخًا (وربما 14 فرخًا) على الجزر الخمس.
يستمتع كل من بيتر شارب ونيثين ميلينغ بجمال المنظر على جزيرة سانتا كروز
وبعدما سار شارب لمدة ساعتين، عثر على الفرخ فوق قمة شجرة الزان الأبيض الجافة. ومن فوقها يحوم نسران بالغان، كانا يصيحان اعتراضًا على تدخله في المكان.
وهنا، أخرج شارب من حقيبته بعض المعدات لقياس الأبعاد من أجل وضع علامات بلاستيكية على الجناح، فضلًا عن إبر ومحقنات وحاويات صغيرة بغية جمع عينة من الدم.
ثم وضع حول خصره ورجليه حزام التسلق وأحكم حلقات التسلق المعدنية المتدلية حول خصره، وأغلق مشبك حزام خوذة الأمان.
وقال للطائر برفق كما لو كان يتحدث إلى صغيره: "مرحبًا بك". وفي غضون دقائق، تمكن من إنزال الطائر إلى الأرض في حقيبة من القماش توضع فوق الكتف، ومن هنا بدأ عمله الحقيقي.
أولًا بدأ بقياس عمق المنقار ثم حجم الساق، ليتعرف على جنس الطائر، إذ يزيد حجم الإناث بنسبة 25 في المئة عن الذكور، ثم سحب منه عينة من الدم ووضع علامة تعريف على مقدمة جناحه الأيسر. وتساعد بطاقة التعريف، التي تتكون من حرف ورقم، علماء الأحياء في تحديد هوية الطيور بمجرد أن تترك أعشاشها.
وكل هذا وهو يتحلى بهدوء ودقة الجراح في غرفة الطوارئ، ولم يهدر لحظة واحدة من وقته.
ولإصراره على إعادة جميع الطيور التي تعيش في بلادنا إلى بيئاتها الطبيعية، أعاد شارب الفرخ إلى عشه وتنهد قائلًا: "لقد أتممت إحدى المهام بنجاح، من يعرف كم يتبقى من الطيور والحيوانات التي علي أن أعيدها إلى موائلها".